فصل: القراءات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتداعى المعاني هو الخاصية الموجودة في الإنسان، ومعنى تداعى المعاني أن الإنسان يستقبل معنى من المعاني فيشير ذلك المعنى إلى معان خبيئة يستدعيها لتحضر في الذهن، فمثلا حين ترى إنسانا تعرفه.
فإن تداعى المعاني يعطيك تاريخك معه وتاريخه معك، ويصور بخاطرك أيضا صورا عن أهله وأصدقائه، ومعارفه، ويأتي لك تداعى المعاني بالأحداث التي كانت بينك وبينه أو شاهدتها أنت وهذا هو ما نسميه تداعى المعاني أي أن المعنى يدعو المعنى.
وحين يخاطب الله سبحانه وتعالى الإنسان، فإنه يخاطب كل ملكة فيه في آن واحد، حتى لا تأخذ ملكة غذاءها، دون ملكة أخرى لا تجد لها غذاء إن كلام الله جاء مستوفيا وكافيا لكل الملكات، ومثال ذلك حينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يمنع المشركين من أن يطوفوا بالبيت، وكان المشركون قبل تحريم الله لطوافهم، يطوفون بالبيت، ويأتون من أماكن سحيقة بعيدة ليطوفوا في موسم الحج، وكانوا يأتون بأموالهم لينفقوها على أهل مكة، ويشتروا كل شيء يلزمهم منها، فموسم الحج كان موسما اقتصاديا. وحين يريد الله أن يمنع المشركين من الحج فهو يخاطب المسلمين المقيمين بمكة حتى يحولوا بين المشركين وبين الطواف، وهو سبحانه قد علم- وهو العليم- بما خلق من ملكات، يعلم سبحانه أن ملكة أخرى ستتدخل في هذا الوقت، فيقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28].
وعندما ينزل هذا الحكم فلابد أن تتحرك ملكات في النفس الإنسانية، والحق قد علم أزلا أن ملكة النفعية الاقتصادية عند أهل مكة ستتحرك عند سماع هذا الحكم، بمعنى أن بعضا من المسلمين المقيمين بمكة وقت نزول هذا الحكم قد يقولون: وإذا كنا نمنع المشركين الذين يفدون علينا بالأموال ليشتروا بضائعنا وموسمهم الاقتصادي هو الذي يعولنا طيلة العام فماذا نصنع إذن؟ إن الله يعلم أنه عند نزول حكم بتحريم البيت على المشركين أن يقربوه فلابد أن تتحرك في النفس الإنسانية تلك الملكية النفعية، فيقول سبحانه عقب ذلك مباشرة: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28].
الخوف من العيلة، أي الخوف من الفقر، وتلك هي عظيمة الكلام الإلهي لأن رَبًّا يتكلم إن الإنسان حينما يتكلم قد تفوته معان كثيرة، وبعد ذلك قد تحدث ضجة وبلبلة وثورة بين الناس، لكن الحق الأعلى عندما يقول: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} ويتبع ذلك فورا بقوله المطمئن: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} وقد فعل وجبي الحق وجلب إلى البيت الحرام ثمرات كل شيء، وكأنه يقول لنا: لا تعتقدوا أن هذه الثمرات قادمة عن طريق التطوع ولكنها رزق من لدنا، كما جاء في قوله الحق: {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص: 57].
أي أنه ليست هناك حرية لأحد أن يعطي أهل البيت الحرام أو لا يعطي، إنها جباية، لطمأنة الملكية التفعية في النفس، وهو سبحانه يعطي الأمان الاقتصادي الذي يترتب عليه قوام الحياة، وعندما نمعن النظر في آيات القرآن نجد أن هناك آية قد تتقدم وآية قد تتأخر، وآية قد تأتي في الوسط، ونجد أن الآية الوسطى، مرتبطة بتداعي المعاني بالآية التي قبلها، ومرتبطة بتداعي المعاني بالآية التي بعدها، ولذلك لترتوي وتتغذى كل ملكات الإنسان فلا يأتي أمر يوحي بأن هناك ما ينقص النفس البشرية، لنتأمل مثالا لذلك وهو قول الحق: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة: 8].
إن المشركين لم يقولوا لأحد: إنما قالوا لأنفسهم، ويكشفهم الحق سبحانه العليم في أخفى خباياهم، ويُظهر ما في أنفسهم، وهو العليم بكل خفايا عباده والكاشف لكل الملكات النفسية في خلقه. وحين يقول الحق سبحانه: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ}. فإن الآية تحريض على الإنفاق، وجاءت بعد آية تفيد أن هناك إنفاقا لا يقبله الله في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} [آل عمران: 91].
إذن فهناك لون من النفقة يرفضه الله، وتداعى المعاني في النفس الإنسانية قد يجعل الإنسان يسأل ما هي إذن النفقة المقبولة؟ لذلك كأن لابد وأن يأتي قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} فإذا كانت هناك نفقة مردودة فهناك أيضا نفقة مقبولة، وهكذا نرى الآية التي تحرص على الإنفاق منسجمة مع ما قبلها.
{لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}، قد يسأل سائل، ولماذا لا ينال الإنسان البر إلا بعد ان ينفق مما يحب؟ وله أن يعرف أن طبيعة النفس الإنسانية هي الشح ولهذا جاء في القرآن الكريم: {فَاتَّقُواْ الله مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْرًا لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16].
وشح النفس يأتي لأن الإنسأن لا يأمن أبدا أن يأتيه العجز من بعد القدرة، لذلك فإنه يحاول إن كان يملك شيئا أن يؤمن العجز المتوهم، فيحافظ على ما عنده من حاجات، ومن هنا جاءت الحيازة والملكية ولم تنشأ هذه الأشياء من أول الخلق، وإنما نشأت من يوم أن ضاقت الأمكنة المُعْطية دون الحاجات، فحين تكون الأمكنة المعطية تسع الحاجات فلا داعي لهذا العجز المتوهم.
لنفترض أن رجلا اشترى صندوقا من البرتقال، ودخل منزله وعندما يحتاج ابن هذا الرجل لبرتقالة أو اثنتين فإنه يأخذ ما يريد، لكن لو أحضر الرجل قليلا من البرتقال فإن زوج الرجل تكون حريصة على أن تقسم البرتقال بين الأولاد حتى لا تترك كل ابن على سجيته بما قد يحرم الآخرين.
وهكذا كان الأمر في بدء استخلاف الله للإنسان في الأرض، فمن أراد الأرض اخذ، ومن أراد أكل الثمار فهي أمامه، وعندما قلت مُعطيات الحاجات وذلك بضيق الأمكنة المعطية بدأت في الظهور الرغبة في الملكية، وامتياز الأشياء، والحق سبحانه يلفتنا في هذه المسألة وكأنه يقول لنا: إن النفقة لو نظرت إليها نظرة واقعية حقيقية لوجدت أنك أيها العبد مضارب لله في خير الله. ومعنى مضارب أي أنك تعمل عند الله بالعقل الذي خلقه لك، وتخطط به، وتعمل عند الله بالطاقة التي خلقها الله، والمادة التي خلقها الله لك تنفعل معها فماذا لك أنت؟
إن كل شيء لله، وأنت مجرد مضارب لا تملك شيئا وما دمت مضاربا أيها العبد، فإعط لله حقه، وحق الله لا يأخذه هو؛ فهو أغنى الأغنياء، إن حق الله يأخذه أخوك غير القادر الذي لا يستطيع أن يتفاعل مع المادة، ولا تظن أيها العبد أن الله حين طلب منك النفقة مما تحب أنه- جل شأنه- قد استكثر عليك ما طلب منك أن تنفقه، أنه ساعة يأخذ منك لأخيك وأنت قادر، إنما يطمئنك أنك إن عجزت فسيأخذ لك من القادرين ذلك هو التأمين في يد الله.
إن الحق يريد أن يحببنا في أن ننفق، لكن الإنسان يحاول أن ينفق مما لا يحب، فيهدي الإنسان الثوب الذي لم يعد صالحا للاستعمال يعطيه لفقير، أو يعطي الحذاء المستهلك لواحد محتاج. لكن الله يأمرنا بأن ننفق مما نحب لذلك انفعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سمعوا هذا النص: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} هذا أبو طلحة حينما يسمعها يقول: يا رسول الله، إن أحب مالي إليّ هو بيرحاء فأنا أخرجه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعله في أقاربك»، فجعله في أقاربه.
وهذا زيد بن حارثة يسمع الآية الكريمة فينفعل بها كذلك، وكان عنده فرس اسمه سَبَل وكان يحبه، فيقول: يا رسول الله أنت تعلم حبي لفرسي، وأنا أجعله في سبيل الله فأخذه منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء بأسامة بن زيد وأركبه الفرس قال زيد: فوجدت في نفسي أي أنه حزن، وقال زيد: يا رسول الله أنا أردت أن أجعل الفرس في سبيل الله وأنت تعطي الفرس لابني ليركبه. فقال رسول الله لزيد: «أمَا إنّ الله قبله منك».
وبعد ذلك ينفعل سيدنا أبو ذر رضي الله عنه وكان عنده إبل، والإبل لها فحل يلقح إناث الإبل، وكان هذا الفحل أحب مال أبي ذر إليه وجاء ضيف إلى أبي ذر، فقال له: إني مشغول، فاخرج إلى إبلي فاختر خيرها لنذبحه لضيافتك. فخرج الضيف، ثم عاد وفي يده ناقة مهزولة، فلما رآها أبو ذر قال: خنتني، قلت لك هات خير الإبل، قال الضيف: يا أبا ذر لقد رأيت خيرها فحلا لك وقدرت يوم حاجتكم إليه. فقال أبو ذر: إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي.
إن الصحابي الجليل أبا ذر يعرف أن يوم أن يوضع في الحفرة هو اليوم الجليل الذي يستحق من المرء أن يستعد له.
وسيدنا ابن عمر كان عنده جارية جميلة من فارس، وكان يحبها، فلما سمع الآية، قال: ليس عندي أحب إليّ من هذه الجارية، وأعتقها، وكان من الممكن أن يتزوجها بعد أن أعتقها لكنه قال: لولا أن ذلك يقدح في عتقها لتزوجتها.
وسيدنا أبو ذر رضي الله عنه يعطينا في مسألة الإنفاق درسا من أروع الدروس المستوعبة للملكة النفسية، فيقول: في المال شركاء ثلاثة:
1- القَدَر لا يستأمرك أن يذهب بخيره وشره من هلاك أو موت. أي أن القدر لا يستأذن عبدا في أن يذهب بالمال حيث يريد، فتأتي أي مصيبة فتأخذ المال إلى هلك أو موت. هذا هو الشريك الأول في المال، أنه القَدَر.
2- والشريك الثاني في المال يوضحه لنا أبو ذر فيقول: أنه الوارث، ينتظرك إلى أن تضع رأسك، ثم يستاقها وأنت قد سلبت بالموت كل ما تملك في الدنيا وأصبحت من غير أهلها. إن الوارث يقول لنفسه: فلأستمتع بما ترك لي، وهذا هو الشريك الثاني في المال.
3- ويوضح لنا أبو ذر رضي الله عنه الشريك الثالث في المال فيقول: والثالث أنت، فإن استطعت ألا تكون أعجز الثلاثة فلا تكن أعجزها، أي إياك أن يغلبك على المال القدر أو الوارث، ينبغي عليك أن تغلب بإنفاق المال في سبيل الله وإلا أخذه منك باقي الشركاء.
إذن لقد انفعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآية حينما نزلت حتى عدا الخير المحبوب منهم إلى غيرهم، وكان جزاء ذلك الجنة. لقد عرفوا قول الحق: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} أي الجنة المترتبة على الطاعة أو التقوى، أو سعة البركة أو سعة القوة، وكلها معان ملتقية، ولذلك يقول الله في الحديث القدسي: «قد كان العباد يكافِئون في الدنيا بالمعروف وأنا اليوم أكافئ بالجنة».
إن الحق سبحانه الذي يعطي البر ثمنا لنفقة مما تحب يعلم هل أنفقت مما تحب فعلا أو تيممت الخبيث لتنفق منه، فإياك أيها المؤمن أن تخدع نفسك في هذا الأمر، لأن الذي البر ثمنا لنفقه مما تحب يعلم خبايا النفس، لذلك يقول سبحانه: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ}.
وعلم الله شامل، أنه يعلم ما في نيتك، وكيف أنفقت.
ولقد بين الحق سبحانه النفقة المرفوضة حتى ولو كانت ملء الأرض ذهبا، ثم أوضح لنا أن هناك نفقة مقبولة وجزاؤها الجنة، وبذلك نرى التقابل بين النفقتين ولماذا جاء هذا الحديث؟ لقد كذب بعض أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مستهل أمر الدعوة وكذبوا البشارة به، والنعت والبشارة جاءا في التوراة والإنجيل، وأنكروا الأوصاف التي ذُكِرت في كتبهم. حدث ذلك مع أنهم قد تورطوا من قبل في إعلان البشارة به {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ}.
لقد أراد الله أن يفضحهم في التوراة التي يعتقدون أنها كتابهم وقد حرفوا بعض أحكام الله، وظنوا أن هذه التحريفات ستظل مستورة، لذلك جاء لهم بأحداث ولم ينتبهوا إليها لتقوم الحجة على أنهم قاموا بتحريف التوراة مثلما قلنا من قبل عن الخيبرية التي ارتكبت فاحشة الزنا، وأراد رؤساء اليهود أن يخففوا العقوبة عنها، لأن العقوبة الواردة في التوراة على جريمة الزني هي الرجم وقال هؤلاء الرؤساء: نذهب إلى محمد، لعل لديه حكما مخففا فلما ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضح لهم أنه الرجم. فقالوا: لا، أنك لم تنصف في حكمك. فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم أنه يرضى بحكم التوراة التي عندكم وجيء بالتوراة وأمرهم الرسول أن يقرأوا فلما جاءوا إلى آية الرجم أرادوا أن يغفلوها فقال ابن سلام: إنهم يا رسول الله قد وثبوا وأغفلوا الآية.
وهكذا انتبه الجميع إلى أن رؤساء اليهود أرادوا ان يتخطوا حكما لله موجودا عندهم وأرادوا أن ينكروه، كما فعلوا وأحدثوا في وصف النبي عليه الصلاة والسلام ومحوا هذا الوصف، ولم يتركوا له أثرا، لكن الله انساهم بعض الأشياء لتكون بينة وآية على رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعندما أحل الرسول صلى الله عليه وسلم الإبل وألبأنها، قالوا: هذه محرمة من أيام إبراهيم ومن قبله من أيام نوح، ولا يمكن أن نقبل تحليلها، فوضح النبي صلى الله عليه وسلم لهم أنها ليست محرمة، الله أحلها.
وكان يجب أن يفهموا أن الإبل وألبأنها حتى وإن كانت محرمة من قبل إلا أن رسولا قد جاء من عند الله بتشريع له أن ينسخ ما قبله مع أنّ الإبل وألبأنها لم تكن محرمة، لذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحتكم إلى التوراة. وهذه هي العظمة النورانية المحمدية، فلا يمكن أن يقول صلى الله عليه وسلم: نحتكم إلى التوراة إلا وهو واثق أن التوراة إنما تأتي بالحكم الذي يؤيد ما يقول، مع أنه لا يقرأ ولا يكتب. ويحضرون التوراة، فيجدون الكلام مطابقا لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك قال الله: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًا لِّبَنِي إسرائيل إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسرائيل عَلَى نَفْسِهِ}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (93):

قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسرائيل إِلَّا مَا حَرَّمَ إسرائيل عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر بذلك بين أنه كان ديدن أهل الكمال على وجه يقرر به ما مضى من الأخبار بعظيم اجتراء أهل الكتاب على الكذب بأمر حسّي فقال تعالى: {كل الطعام} أي من الشحوم مطلقًا وغيرها {كان حلًا لبني إسرائيل} أي أكله- كما كان حلًا لمن قبلهم على أصل الإباحة {إلا ما حرم إسرائيل} تبررًا وتطوعًا {على نفسه} وخصه بالذكر استجلابًا لبنيه إلى ما يرفعهم بعد اجتذابهم للمؤمنين إلى ما يضرهم ولا ينفعهم.
ولما كانوا بما أغرقوا فيه من الكذب ربما قالوا: إنما حرم ذلك اتباعًا لحكم التوراة قال: {من قبل} وأثبت الجار لأن تحريمه كان في بعض ذلك الزمان، لا مستغرقًا له.
وعبر بالمضارع لأنه أدل على التجدد فقال: {أن تنزل التوراة} وكان قد ترك لحوم الإبل وألبأنها وكانت أحب الأطعمة إليه لله وإيثارًا لعباده- كما تقدم ذلك في البقرة عند {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89].
ولما كانت هذه الآية إلزامًا لليهود باعتقاد النسخ الذي طعنوا به في هذا الدين في أمر القبلة، وكانوا ينكرونه ليصير عذرًا لهم في التخلف عن اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم، فكانوا يقولون: لم تزل الشحوم وما ذكر معها حرامًا على من قبلنا كما كانت حرامًا علينا، فأمر بجوابهم بأن قال: {قل} أي لليهود {فأتوا بالتوارة فاتلوها} أي لتدل لكم {إن كنتم صادقين} فيما ادعيتموه، فلم يأتلوا بها فبان كذبهم فافتضحوا فضيحة لا مثل لها في الدنيا. اهـ.

.اللغة:

{البر} كلمة جامعة لوجوه الخير والمراد بها هنا الجنة.
{حلا} حلالا وهو مصدر يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث.
{إسرائيل} هو يعقوب عليه السلام.
بكة اسم لمكة فتسمى بكة ومكة سميت بذلك لانها تبك أي تدق اعناق الجبابرة فلم يقصدها جبار بسوء الا قصمه الله.
{مباركا} البركة: الزيادة وكثرة الخير.
{مقام ابراهيم} محل قيام ابراهيم وهو الحجر الذي قام عليه لما ارتفع بناء البيت.
{عوجا} العوج: الميل، قال ابو عبيدة: بالكسر، في الدين والكلام والعمل، وبالفتح عوج، في الحائط والجذع.
{يعتصم} يتمسك ويلتجئ وأصله المنع، قال القرطبي: وكل متمسك بشيء معتصم، وكل مانع شيئا فهو عاصم {قال لا عاصم اليوم من أمر الله}.
{شفا} الشفا: حرف كل شيء وحده، ومثله الشفير، وشفا الحفرة: حرفها قال تعالى: {على شفا جرف هار}. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{أن تنزل} خفيفًا: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون بالتشديد.
{حج البيت} بكسر الحاء: يزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد الباقون بفتحها.

.الوقوف:

{تحبون} ط {عليم} o {تنزل التوراة} ط {صادقين} o {الظالمون} o {حنيفًا} ط {المشركين} o {للعالمين} o ج لأن ما بعده يصلح حالًا واستئنافًا {مقام إبراهيم} ج للابتداء بالشرط مع الواو لأن الأمن من الآيات {آمنا} ط {سبيلا} ط {العالمين} o {بآيات الله} ط قد قيل: والوده الوصل لأن الواو للحال {تعملون} o {شهداء} ط {تعملون} o {كافرين} o {رسوله} ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط {مستقيم} o. اهـ.